سؤالي عن من هو الأفضل عند الله : لقد قرأت الآية
التي تقول ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وأنا في حيرة من ذلك ، إنني أعرف
أن علماء الدِّين هم من أفضل الناس منزلة في الجنَّة ، ولكن هل للأناس
العاديين أن يصلوا لتلك المنزلة ؟ هناك بعض الناس يَصِلون لدرجة من العلم
ولكنهم لا يصيرون علماء ولا ينفعون الناس ، وفي هذا الوقت يكون الداعية
الذي يلتف حوله الناس ويكون مشهوراً هو أكثرهم نفعاً لهم ، فهل يمكن أن
يكون التقي أعلى منزلة عند الله من العالم النافع للناس الذي يؤلِّف الكثير
من الكتب ؟ .
إنني أسأل لأنني أريد أن أنال منزلة عالية عند الله ولكنني لا أريد أن أكون
مشهوراً ، ولأنني لن أنفع الناس لأني غريب ولست مشهوراً .
إنني في حيرة من أمري وسوف أكون ممنوناً لكم إذا ما وضحتم لي الأمر .
جزاكم الله خيراً .
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
نشكر لك أخي السائل حرصك على الخير ونسأل الله تعالى أن يبلغك مقصودك منه في الدنيا
والآخرة ، ونحب – بداية – أن نبين لك أموراً تطمئن بها نفسك ونفس جميع الموحدين :
1. أدنى الناس منزلة في الجنة له خمسون ضعفاً من ملك أعظم ملوك الأرض .
عن الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ قال : قال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : ( سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً ؟
قَالَ : هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ
فَيُقَالُ لَهُ : ادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ
النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : أَتَرْضَى
أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ؟ فَيَقُولُ :
رَضِيتُ رَبِّ ، فَيَقُولُ : لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ
وَمِثْلُهُ ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ : رَضِيتُ رَبِّ ، فَيَقُولُ : هَذَا لَكَ
وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ ،
فَيَقُولُ : رَضِيتُ رَبِّ . رواه مسلم ( 189 ) .
2. رضوان الله تعالى على أهل الجنة أعظم من أعظم نعيم فيها .
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، يَقُولُونَ
: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ :
وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ
خَلْقِكَ ، فَيَقُولُ : أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالُوا : يَا
رَبِّ وَأَيُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ
رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً ).
رواه البخاري ( 6183 ) ومسلم ( 2829 ) .
ثانياً:
لعل نفسك قد اطمأنت ، وعينك قد قرت بما بشر الله به عباده ، وما أعده لهم من
المنازل ، فأبشر ـ أيها الأخ الكريم ـ فليست الدرجات العلى في الجنة للعلماء
العاملين بعلمهم فحسب ، بل يمكن أن يكون غيرهم في منزلتهم أو أعظم منهم منزلة ،
فهناك الصدِّيقون ، والمجاهدون ، والمنفقون ، والحافظون لكتاب الله ، وهناك الساعون
على الأرامل والمساكين ، وغيرهم كثير ،
قال تعالى
وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ
يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم
مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) آل عمران/ 133 ، 136 .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
"وفي الجملة : فخير الناس أنفعهم للناس وأصبرهم على أذى الناس ، كما وصف الله
المتقين بذلك في قوله تعالى ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ )" آل عمران/ 134 .
انتهى من" لطائف المعارف " ( ص 231 ) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ فَمَنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ
أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ
دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ ) .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ ؛ فَهَلْ
يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا ؟
قَالَ : ( نَعَمْ ؛ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ ) . رواه البخاري (1897) ومسلم
(1027) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمُرَاد مَا يُتَطَوَّع بِهِ مِنْ الْأَعْمَال
الْمَذْكُورَة لَا وَاجِبَاتهَا لِكَثْرَةِ مَنْ يَجْتَمِع لَهُ الْعَمَل
بِالْوَاجِبَاتِ كُلّهَا , بِخِلَافِ التَّطَوُّعَات فَقَلَّ مَنْ يَجْتَمِع لَهُ
الْعَمَل بِجَمِيعِ أَنْوَاع التَّطَوُّعَات , ثُمَّ مَنْ يَجْتَمِع لَهُ ذَلِكَ
إِنَّمَا يُدْعَى مِنْ جَمِيع الْأَبْوَاب عَلَى سَبِيل التَّكْرِيم لَهُ ,
وَإِلَّا فَدُخُوله إِنَّمَا يَكُون مِنْ بَاب وَاحِد , وَلَعَلَّهُ بَاب الْعَمَل
الَّذِي يَكُون أَغْلَب عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ " . انتهى .
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ فِي الْجَنَّةِ
لَغُرَفًا يُرَى بُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا وَظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا )
فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِمَنْ هِيَ ؟
قَالَ : ( لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ ، وَصَلَّى لِلَّهِ
بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ) .
رواه أحمد (1340) والترمذي (1984) وحسنه الألباني .
فتبين بذلك أن دخول الجنة ، ونزول منازلها العليا ، ليس حكرا على العلماء وحدهم ؛
فهذا لم يقل به أحد ، مع الاتفاق على عظيم منزلة العلم وأهله ، وإنما على العبد أن
ينظر في الباب الذي فتحه الله له من العبادة ، ويسره له ، وهيأ له أسبابه ، فليلزمه
، وليعتن به ، وكل ميسر لما خلق له .
والله أعلم